(قصة قصيرة)
خلاص معتقل متفائل
لم يعد يذكر كم من السنين قضى في هذا المكان الرطب المظلم .....كأنه مدفون في غيابات الارض في قبر علوه متران وعرضه متران ومن سخرية القدر ان له باب لا يفتح إلا مرة في الشهر....
اصبح كقطعة اثرية منسية في دهاليز الزمن ...انسان ضائع بين سنوات الالم والحيرة والحرمان والوحدة القاتلة ....
مجرد بقايا مهترئة لشخص اقتيد غصبا الى دوامة الاعتقال بتهمة سياسية قبل ان يعي معنى السياسة وقبل ان يعلم ان ابن خلدون ذكرها في مقدمته...........
لا يذكر انه في يوم من الايام كان يعلم مغزى هذا المصطلح..... لأنه وبكل بساطة لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حينما اقتيد الى هذا العالم السفلي.....حينما خرج من الثانوية في يوم نسي تاريخه..ولم يعد يذكر تفاصيل ما حدث فيه....
أنهكته برودة المكان....وعبثت في كل مناطق جسمه وتضاريسه كما عبثت في تاريخه ........
كان قبل زمن قريب يستعين بملعقة دهريه كجسده المالوم لحفر ذاكرته على جدران زنزانته .......لكن صدر امر بجعله يتوقف وأخذت ملعقته... اداته الوحيدة في التعبير ...عنوة وقهرا..انخفضت معنوياته الى اقصى درجة.......
وصار ظلام الزنزانة يتسرب الى داخله ويشعره بالوحشة التي لطالما ساعدته زخرفاته على الجدار نسيانها........ ولبت كليل قطبي صامت تعيس .....يتجرع برودة المكان ويحتضن صدره قلبا اعتصرته يد الزمن وخنقت شرايينه لتجعل من دقاته المتباطئة الشريدة ايذانا على قرب نهاية بقايا انسان محتومة.....عتمة .....حرمان....انتقام الحياة من البشر في شخصه.....
ومن دوامة الضياع وبين ذرات العتمة انبثقت فكرة فتتت السواد ورفعت معنوياته ووصلت اقصى حدودها وشاع النور الغرفة الغارقة في الظلام وكانت الفكرة مصدر الضوء تحته على الحياة .....نعم بكل بساطة الحياة.....
وفي الموعد الشهري لخروجه لساحة السجن شغل نفسه بالبحث عن عشرة احجار صغيرة جدا اثر ان يختارها بكل دقة.....
وكانت وسيلته الجديدة للخروج من السجن الذي نخر عظامه ونهش لحمه كوحش ضاري.......
صار يستفيق باكرا ويرمي الى الاعلى تلك الاحجار الصغيرة ثم يتركها تستقر بفوضى على ارض الغرفة وينحني على ركبتيه وتبدأ رحلة بحثه عنها طوال يومه الذي ينتهي حينما يجمع احجاره العشرة بكاملها.......
حينها تنفذ الراحة النفسية العميقة الى دواخله ويشعر بسعادة لا توصف فيطلق العنان لعقله ويطير عاليا خارقا قوانين السجن برمتها ويعلو فوق المدينة ويحط في اماكن عدة يسير في الطرقات التي لطالما ذرعها وحده او بمعية اصدقائه ويركب اجمل السيارات ويرتاد اغلى المطاعم ويستلذ بأشهى ما وجد فيها ويرتاد احسن المقاهي الاوروبية ويستمتع بصحبة احلى الشقراوات وفي الاخير يعود الى بيته .....
وتعلن صفارة الصباح قدوم يوم جديد ويعلن هو برميه الاحجار العشرة بدا قتل ليوم جديد وتعاد المشاهد إلا انه في كل يوم تزداد امانيه ورغبته في الحياة ويرقى احساسه ويسامح كل من ظلمه ويعفو عن من اخطا في حقه وتستمر حياته من الحسن الى الاحسن .....
وذات صباح اعلنت صفارة السجن قدوم يوم اخر وفتح باب زنزانته ونودي عليه برقمه التسلسلي في دفاتر السجن واخبر بأنه مطلوب في الادارة .......
فيجد الخدم في انتظاره ..... فيأمر وينهى في مملكته وينام قرير العين بما فعله في يومه ...........
نعم ينام في ركن زنزانته وقد اجهده طول تنقله فلا تجد كوابيس السجن ولا سخط الجلادين مكانا تستقر فيه ....... في عقله النائم قرير العين. المستعد لصنع ابهى الصور في اليوم التالي ....والمتأهب للرحلة...وخوض غمار حياته الملونة الوان قوس قزح السعادة....
انقبض قلبه وسرت الهواجس العابثة في عقله فلا شك ان امر الاحجار قد اكتشف..ولا محالة انه هالك ضم يده عليها بقوة وكأنه يريدها ان تنصهر وتسير في مسرى دماءه ....في مكتب الضابط اخبر انه حاز على عفو وانه سيحصل على منحة مالية محترمة تعويضا رمزيا عن سنواته في الاعتقال لبث مشدوها لحظات وكأنه في احدى سفرياته الروحية الليلية ...ثم انتبه الى الالم الذي اصابه في يده بقوة الضغط على الاجسام الحجرية الصغيرة ...
انتفض وبرزت في ذهنه فكرة جميلة... سيتدارك كل ما فاته..... وسيحلق كما كان يفعل كل ليلة..وسيحيا كما يحيا الاحرار وكما كان يريد ويحلم....
ايقن حينما ربت الضابط على كتفه ونطق المقولة الشهيرة.....“لا اريد رايتك هنا مجددا ” ايقن ان الحياة هي ما نفكر فيه ونصنعه وليس ما نقبل به ونعتقده........
انتهى.
chourouk.
خلاص معتقل متفائل
لم يعد يذكر كم من السنين قضى في هذا المكان الرطب المظلم .....كأنه مدفون في غيابات الارض في قبر علوه متران وعرضه متران ومن سخرية القدر ان له باب لا يفتح إلا مرة في الشهر....
اصبح كقطعة اثرية منسية في دهاليز الزمن ...انسان ضائع بين سنوات الالم والحيرة والحرمان والوحدة القاتلة ....
مجرد بقايا مهترئة لشخص اقتيد غصبا الى دوامة الاعتقال بتهمة سياسية قبل ان يعي معنى السياسة وقبل ان يعلم ان ابن خلدون ذكرها في مقدمته...........
لا يذكر انه في يوم من الايام كان يعلم مغزى هذا المصطلح..... لأنه وبكل بساطة لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حينما اقتيد الى هذا العالم السفلي.....حينما خرج من الثانوية في يوم نسي تاريخه..ولم يعد يذكر تفاصيل ما حدث فيه....
أنهكته برودة المكان....وعبثت في كل مناطق جسمه وتضاريسه كما عبثت في تاريخه ........
كان قبل زمن قريب يستعين بملعقة دهريه كجسده المالوم لحفر ذاكرته على جدران زنزانته .......لكن صدر امر بجعله يتوقف وأخذت ملعقته... اداته الوحيدة في التعبير ...عنوة وقهرا..انخفضت معنوياته الى اقصى درجة.......
وصار ظلام الزنزانة يتسرب الى داخله ويشعره بالوحشة التي لطالما ساعدته زخرفاته على الجدار نسيانها........ ولبت كليل قطبي صامت تعيس .....يتجرع برودة المكان ويحتضن صدره قلبا اعتصرته يد الزمن وخنقت شرايينه لتجعل من دقاته المتباطئة الشريدة ايذانا على قرب نهاية بقايا انسان محتومة.....عتمة .....حرمان....انتقام الحياة من البشر في شخصه.....
ومن دوامة الضياع وبين ذرات العتمة انبثقت فكرة فتتت السواد ورفعت معنوياته ووصلت اقصى حدودها وشاع النور الغرفة الغارقة في الظلام وكانت الفكرة مصدر الضوء تحته على الحياة .....نعم بكل بساطة الحياة.....
وفي الموعد الشهري لخروجه لساحة السجن شغل نفسه بالبحث عن عشرة احجار صغيرة جدا اثر ان يختارها بكل دقة.....
وكانت وسيلته الجديدة للخروج من السجن الذي نخر عظامه ونهش لحمه كوحش ضاري.......
صار يستفيق باكرا ويرمي الى الاعلى تلك الاحجار الصغيرة ثم يتركها تستقر بفوضى على ارض الغرفة وينحني على ركبتيه وتبدأ رحلة بحثه عنها طوال يومه الذي ينتهي حينما يجمع احجاره العشرة بكاملها.......
حينها تنفذ الراحة النفسية العميقة الى دواخله ويشعر بسعادة لا توصف فيطلق العنان لعقله ويطير عاليا خارقا قوانين السجن برمتها ويعلو فوق المدينة ويحط في اماكن عدة يسير في الطرقات التي لطالما ذرعها وحده او بمعية اصدقائه ويركب اجمل السيارات ويرتاد اغلى المطاعم ويستلذ بأشهى ما وجد فيها ويرتاد احسن المقاهي الاوروبية ويستمتع بصحبة احلى الشقراوات وفي الاخير يعود الى بيته .....
وتعلن صفارة الصباح قدوم يوم جديد ويعلن هو برميه الاحجار العشرة بدا قتل ليوم جديد وتعاد المشاهد إلا انه في كل يوم تزداد امانيه ورغبته في الحياة ويرقى احساسه ويسامح كل من ظلمه ويعفو عن من اخطا في حقه وتستمر حياته من الحسن الى الاحسن .....
وذات صباح اعلنت صفارة السجن قدوم يوم اخر وفتح باب زنزانته ونودي عليه برقمه التسلسلي في دفاتر السجن واخبر بأنه مطلوب في الادارة .......
فيجد الخدم في انتظاره ..... فيأمر وينهى في مملكته وينام قرير العين بما فعله في يومه ...........
نعم ينام في ركن زنزانته وقد اجهده طول تنقله فلا تجد كوابيس السجن ولا سخط الجلادين مكانا تستقر فيه ....... في عقله النائم قرير العين. المستعد لصنع ابهى الصور في اليوم التالي ....والمتأهب للرحلة...وخوض غمار حياته الملونة الوان قوس قزح السعادة....
انقبض قلبه وسرت الهواجس العابثة في عقله فلا شك ان امر الاحجار قد اكتشف..ولا محالة انه هالك ضم يده عليها بقوة وكأنه يريدها ان تنصهر وتسير في مسرى دماءه ....في مكتب الضابط اخبر انه حاز على عفو وانه سيحصل على منحة مالية محترمة تعويضا رمزيا عن سنواته في الاعتقال لبث مشدوها لحظات وكأنه في احدى سفرياته الروحية الليلية ...ثم انتبه الى الالم الذي اصابه في يده بقوة الضغط على الاجسام الحجرية الصغيرة ...
انتفض وبرزت في ذهنه فكرة جميلة... سيتدارك كل ما فاته..... وسيحلق كما كان يفعل كل ليلة..وسيحيا كما يحيا الاحرار وكما كان يريد ويحلم....
ايقن حينما ربت الضابط على كتفه ونطق المقولة الشهيرة.....“لا اريد رايتك هنا مجددا ” ايقن ان الحياة هي ما نفكر فيه ونصنعه وليس ما نقبل به ونعتقده........
انتهى.
chourouk.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق